تختصر
ساحة الشهداء المتواجدة بقلب العاصمة الجزائرية، شواهد ماثلة على غنى
تاريخ الجزائر، ورغم الطابع العثماني الواضح للساحة والبنايات المحيطة بها،
إلاّ أنّ روحا رومانية مخبوءة تنبعث من هذا المكان السحري المنحدر أسفل
حي القصبة الشعبي الشهير، ما حوّل الساحة إلى فسيفساء لطالما تجاذبها
المسلمون واليهود والنصارى، وتشكل ذاكرة وعنوان الهوية الثقافية للجزائر.
وتتوفر ساحة الشهداء على مخزون أثري كبير، حيث أثبتت حفريات وبحوث أثرية
أنّ هذه الساحة التي أخذت مسميات عدّة في عهد الجزائر المستقلة، يعود
تاريخها إلى نهاية القرن الأول الميلادي، وتطورت على مدار الحقب، ولعلّ
أطلال تلك المنشأة الدينية (البازيليك) يشير إلى طراز معماري كان شائعا ما
بين القرن الرابع والخامس الميلادي.
ورغم أنّها ظلت على مرّ قرون ميدانا خصبا للدراسات،
إلاّ أنّ الساحة بثرائها الظاهر وأسرارها المدفونة، لا تزال تثير هوس
الباحثين، في صورة فريق عمل مكون من 12 عالم آثار جزائري وخمس متخصصين
فرنسيين يعكفون حاليا على إخضاع المنطقة لتقنية الإشعاع الكربوني لتحديد
عمرها الحقيقي، خصوصا بعد العثور على بقايا هيكل قد يمتد تاريخه إلى مرحلة
ما قبل التاريخ.
وتحتوي ساحة الشهداء تاريخيا على حي للصناع الحرفيين، تعرض لمسح شامل من
طرف الجيوش الفرنسية سنة 1831، وهو ما تبرزه قطع نقدية وأخرى نحاسية
ومعدنية، بينما تتميز الجهة السفلية لساحة الشهداء بحصونها العثمانية زمن
التواجد التركي بالجزائر، على غرار حصن 23 ومدافعه المائة التي لا تزال
متوثبة.
وأوردت مراجع تشتغل بميدان الآثار، أنّ عمليات تنقيب
تمت على مستوى ساحة الشهداء وسط العاصمة الجزائرية أفضت إلى مجموعة من
القطع والتشكيلات الفسيفسائية التي لم يتم حتى الآن استخراجها كليا، وأوضح
عالم الآثار الجزائري "عز الدين فرقي" لـ"إيلاف"، أنّ فرق البحث بصدد
دراسة مدى أهمية هذه القطع وتفاصيلها التاريخية.
وأفيد
أنّه علاوة على تلك الفسيفساء، تم كذلك اكتشاف قطع نقدية رومانية ترجع
إلى القرن الثالث الميلادي، علما أنّه سبق إماطة اللثام منذ بعض الوقت عن
آثار تعود إلى زمن الوجود العثماني في الجزائر –خلال الفترة ما بين
القرنين السادس عشر والتاسع عشر-، مثل اكتشاف نظام لجر المياه يعود إلى
العهد العثماني، وقال متحدث باسم فريق من الخبراء الأثريين، أنّ النظام
المذكور عُثر عليه بالفيلا العتيقة "عبد اللطيف"، وكان يُستعمل خلال القرن
السابع عشر، استنادا لأعمال البحث الذي شهد أوّج الحضور العثماني في
الجزائر.
ويتمثل
هذا النظام - بحسب الشروحات المستقاة- في جمع وتعبئة المياه الطبيعية
(الأمطار والينابيع) داخل حوض بموقع "الرياض" وسط الفيلا المذكورة، وكان
يتم بواسطة ذاك النظام توزيع المياه عن طريق ممرات خاصة تصل إلى غاية مرافق
محيطة بالقصر، في صورة حديقة التجارب وفندق السوفيتال، وبحسب أحد
المهندسين المعماريين فإنّ هذا الحوض رُدم عن آخره من قبل المحتل الفرنسي،
لكنّ ذلك لم يؤثر غداة استئناف أعمال الترميم للفيلا عن اكتشاف قنوات خاصة
بتعبئة المياه وتوزيعها.
وبحسب
مختصين، فإنّ النظام المائي العثماني المكتشف والشبيه بالنظام المسمى
(الفوقارة) الذائع الصيت في جنوب الجزائر، يتوفر على كل مقومات "التقنية"
و"الحداثة" ويبرهن على ما توصل إليه الجزائريون في ذلك العهد من تقدم في
تقنيات السقي وتوزيع المياه الصالحة للشرب.
وقبالة
ساحة الشهداء، يترأى "جامع اليهود"، الذي قلبا تجاريا نابضا بالدبيب
المتصل، حيث تتحول سوقه الممتدة، إلى خلية متحركة تغشاها ملايين الناس
يشترون ويبتاعون.
حي جامع اليهود بصخبه وحيويته، يشبه البورصة، فهنا وسط القلاع الأثرية
الشامخة خلف مسجد كتشاوة بصومعته الضخمة، وبجانب الجامع الكبير ومسجد سيدي
عبد الرحمن الثعالبي، يعرض التجار كل شيئ بدءا بالفواكه والخضروات، مرورا
بالستائر والمفروشات التفليدية، وأدوات المطبخ المحلية والمستوردة،
وانتهاءا بالمعجّنات والحلويات، وعدد لا يحصى من المأكولات المعلّبة
والجاهزة التي تستورد غالبا من الخارج، ويملأ بها التجار الصغار أرصفة الحي
العتيق.
ومع أن تسمية الحي تظل غريبة بالنسبة للذين لا يعرفون تاريخ المكان، على
اعتبار أنها تجمع ما بين اسمين متناقضين، الجامع الذي يحتضن جموع المسلمين
يؤدون فيه صلواتهم الخمسة، والمعبد اليهودي القديم، لكن السكان المحليين
ظلّوا يطلقون عليه اسم جامع اليهود، على الرغم من أن السلطات الجزائرية
منحت الحي منذ 46 عاما، اسم الفدائي الجزائري الشهير "علي عمار" المكنّى
"علي لا بوانت"، لكن نسبة الشارع إلى المعبد العبري بقيت قائمة إلى اليوم.
وتشير الكتابات التاريخية التي تناولت تاريخ الحي العتيق على قلّتها، إنّ
هذا المعبد اليهودي بُني العام 1855، ويحمل اسم حاخام يهودي يدعى "أبراهام
بلوخ"، لكن المسلمين أطلقوا على الجامع الذي أقاموه مكان المعبد، تسمية
جامع اليهود، بعدما رأوا هؤلاء يؤدون طقوسهم التعبدية داخله، علما أنّ
المعبد كان الأكبر بين 14 معبدا يهوديا احتوته القصبة قبل الاحتلال الفرنسي
للجزائر العام 1830، كما كان أجمل هذه المعابد على الإطلاق نظرا لطابعه
المعماري الأصيل.
ووقع حي " جامع اليهود " في القرن الماضي ضحية مخططات المستعمر الفرنسي،
التي كانت سببا في تشويه معالمه وتهديم جزء هام من فوانيسه وجدارياته التي
أبدع في نقشها أوائل الأتراك، وبعدما كان حي جامع اليهود، حيا هادئا مخصصا
للإقامة والراحة فقط، أريد له أن ينقلب إلى سوق ضخمة للخضر والفواكه وفقا
لخطة المهندس الفرنسي قيوشان، بزعم توسيع مدينة الجزائر، وقد تعمّد
المحتلون ذلك بغرض اختراق القصبة بطرقات حديثة حتى يتمكن الجيش الفرنسي من
تمرير عساكره ومعداته الحربية وسط الحي المشتهر بدروبه الضيقة وأزقته
الملتوية.