السلام عليكم السلام ورحمة الله وبركاته
النبي صلى الله عليه وسلم علّق الإنكار على الرؤية سواء كانت الرؤية قلبية – عِلم بالمنكر – أو رؤية بصرية ، فقال :
من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ، فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان . رواه مسلم .
فهو علّق الإنكار على الرؤية لا على عِلْم الرائي له ، ولا على كون المشاهِد للمنكَر عالِم .
ومما قرره علماؤنا وُجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى في حق العُصاة المقصِّرين .
قال سعيد بن جبير : لو كان المرء لا يأمر بالمعروف ولا ينهى عـن المنكر حتى لا يكون فيه شيء ما أمَرَ أحدٌ بمعروف ، ولا نَهَـى عن منكر .
قال الإمام مالك : وصَدَق . من ذا الذي ليس فيه شيء ؟!
وقال الحسن البصري لمُطرِّف بن عبد الله : عِـظْ أصحابك ، فقال : إني أخاف أن أقول ما لا أفعل ، قال : يرحمك الله ! وأيُّـنا يفعل ما يقول ؟ ودّ الشيطان أنه قد ظفِرَ بـهذا ، فلم يأمر أحد بمعروف ، ولم يَنْـهَ عن منكر .
ولو لم يعظِ الناس مَنْ هو مذنبُ *** فَمَنْ يعظ العاصين بعد محمدِ - صلى الله عليه وسلم - .
قال ابن عطية : والإجماع مُنعَقِد على أن النهي عن المنكر فَرض لمن أطاقه وأمِن الضرر على نفسه وعلى المسلمين ، فإن خاف فَيُنْكِر بِقَلْبِه ويهجر ذا المنكر ولا يُخَالِطه .
قال القرطبي : وقال حذاق أهل العلم : وليس من شرط الناهي أن يكون سليما عن معصية ، بل يَنهى العصاة بعضهم بعضا . وقال بعض الأصوليين : فَرْض على الذين يتعاطون الكؤوس أن يَنْهَى بعضهم بعضا ، واستدلوا بهذه الآية قالوا لأن قوله : (كَانُوا لا يَتَنَاهَوْنَ عَنْ مُنْكَرٍ فَعَلُوهُ ) يقتضي اشتراكهم في الفعل وذمّهم على ترك التناهي . اهـ .
وقال أيضا :
وليس من شرط الناهي أن يكون عدلا عند أهل السنة ، خلافا للمبتدعة حيث تقول : لا يُغَيِّره إلا عَدْل ، وهذا ساقط ، فإن العدالة محصورة في القليل من الخلق ، والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر عام في جميع الناس . فإن تَشَبَّثُوا بقوله تعالى : ( أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ ) ، وقوله : (كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ ) ونحوه ، قيل لهم : إنما وقع الذمّ ها هنا على ارتكاب ما نَهَى عنه لا على نَهْيِه عن المنكر . اهـ .
قال ابن حجر : ولو كان الآمر مُتَلَبِساً بالمعصية ، لأنه في الجملة يؤجر على الأمر بالمعروف ، ولا سيما إن كان مُطاعاً ، وأما إثمه الخاص به فقد يغفره الله له ، وقد يؤاخذه به ، وأما من قال : لا يأمر بالمعروف إلا من ليست فيه وَصْمَة ، فان أراد أنه الأولى ؛ فَجَيِّد ، وإلا فيستلزم سدّ باب الأمر إذا لم يكن هناك غيره ، ثم قال الطبري : فان قيل : كيف صار المأمورون بالمعروف في حديث أسامة المذكور في النار ؟ والجواب : أنهم لم يمتثلوا ما أُمِرُوا به ، فَعُذِّبوا بمعصيتهم ، وعُذِّب أميرهم بكونه كان يفعل ما ينهاهم عنه . اهـ .
وفَرْقٌ بين من يَعرف أن ما وقع فيه مُنكَر وبين الجاهل ، فكان النبي صلى الله عليه وسلم ربما أغلظ القول لمن كان عالِماً بالأمر والنهي .
وهذا سبق بيانه في هذا المقال :
قطع الله يدك
ولذلك يُفرِّق العلماء بين الجاهل وبين المعانِد .
فالجاهل يُعلّم ، والمعانِد قد يكون المصلحة في الإغلاظ له ، كما فعله عليه الصلاة والسلام مع الرجل الذي أكل بيده اليسرى ، كما في صحيح مسلم .
وكما في سبِّـه للمنافِقَين اللذين خالفا أمره بعد العِلْم .
وأما الزعم بأن الإنكار فيه إقامة حجة عليه وهو جاهل ، فهذه حجة داحضة ، فلو قيل بموجب هذا القول ، لتُرِك الأمر والنهي ، بل وتُرِكت الدعوة لأن فيها إقامة حجة على المدعوِّين .
بل إن من مقاصِد الإنكار إقامة الحجة والإعذار إلى الله ، لقوله تبارك وتعالى : ( وَإِذْ قَالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُوا مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَأَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذَابٍ بَئِيسٍ بِمَا كَانُوا يَفْسُقُونَ ) .
ففي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر : إقامة الحجة ، والإعذار إلى الله ، والنجاة إذا نَزَل العذاب ، كما في هذه الآيات .
ولا شك أن الرِّفق أولى ، غير أن الرِّفق قد لا يُفيد ، وربما أفادتْ القسوة والغِلْظَة ، كما قيل :
فَقَسَا ليزدجروا ومن يَكُ حازما *** فليَقْسُ أحيانا على من يَرحم
فإذا نَفَع الرِّفق فلا يُعدَل عنه إلى غيره ، وليس المقصود التشفِّي في الإنكار ، وإنما المقصود الإصلاح والإعذار والإنذار .
ويجوز من باب البيان والتحذير مما وقع فيه المشرك أن تذكر له أن هذا الفعل شِرك .